بحث

الجمعة، 17 أكتوبر 2014

العدل

بقلم : احمد نصار


أشار إلى الحافله لتتوقف ..كانت ممتلئة عن آخرها كالعاده , فاضطر إلى الوقوف بعدما تجاوز بعض الأشخاص وتلقى الجرعة اليوميه من تذمرهم وسخطهم على كل شىء بداية من مروره وحتى النظام الحاكم .
لا يزال الطريق طويلاً , فى بادىء الأمر حاول أن يتسلى بالنظر من النافذه إلى الحقول والمناظر التى يراها يوميا حتى ملَ منها , ثم جال بنظره بحثا عن أحد الركاب الذين ينوون النزول المحطه القادمه ..ولحسن حظه , أشار له رجل عجوز .
جلس إلى جوار إحدى طالبات الجامعه , ممتزجة بعالم تقرؤه ...درجة أنها لم تلحظ قيام العجوز وجلوس الشاب إلى جوارها.
جذب الكتاب انتباهه كثيرا , فهو لم ير كتابا بهذا القرب من قبل..
كان يراهم مع قرنائه فى صغرهم لكن حلقة النار التى أحاطه بها والده لطالما أبعدته عن مجرد سؤالهم عما بداخلها .
جذبته الكلمات , طريقة رسمها , النقاط , والفوارق بينها ..حاول أن يكتشف لها نمط معين تكتب به كما يحدث مع كل ما يراه بحياته , بل كحياته نفسها ..
لم يسبق له أن تعامل مع أشياء تخرج عن الروتين , كل شيء له نمط معين , فإما يزداد باستمرار أو ينقص باستمرار أو الأثنين معا بتفاوت , وربما يبقى كما هو ..يتكرر كل يوم .. كعمله فى الحقل , ثم تناول الغداء والقيلولة المعتاده , ثم الذهاب إلى العاصمة ليتسلم فترة الحراسة الليلية لـ فيلا أحد أعضاء مجلس الشعب ..وأخيرا العودة إلى غرفته التى أقامها من الطوب اللبن فى قيراطى الأرض ملكه .
نبَهه أحدهم لدفع الأجرة ..فدفعها ثم اختطفه عقله إلى ذكريات ظن أنها تحللت فى مقبرة النسيان ..
تذكر محاولاته الألف مع والده و اقتراحاته التى تخطت المليون ليتعلم بدون أن يكلفه مليما واحدا ..لم يفهم أبدا –ولا يزال - السبب وراء رفض أبيه الذى تعددت حججه الزائفة الضعيفه , ففى البداية كانت الحالة المادية التى لا تسمح له بتعليم أبنائه الثلاثه , ثم أصبحت الحجه أنه يريد من يعينه فى العمل , ثم أصبحت أنه يكفى أن يتعلم إخوانه ..و لم ينتبه يوماً أنه يجعل التخلف " قدراً " لإبنه الثالث والأكبر سناً..
حتى ما قالوا أنها فصول " محو الأمية " ..لم يأتوا إلى قريته إلا مرة واحده ولم يفيدوا أحدا , فقد كانت المعلمة تتحدث فى الهاتف المحمول أغلب الوقت وتطلب منهم أن يكتبوا حرف الألف طوال الوقت , وأيام الإمتحانات كانوا يدفعون عشرة جنيهات إلى كل من الأميين –القليلين كثيرا بالنسبة لما فى القرية منهم – المتواجدين ليعطوا بطاقاتهم الشخصيه لمتعلمين يدفعون لكل منهم أيضاً عشر جنيهات ليجتازوا الإختبار بدلاً منهم ويأخذوا شهادة بأنهم قد نجحوا فى محو أميتهم , وأنهم جاهزون للعمل بأحد مصانع الغزل والنسيج فى العاصمة ...كما علم و كما حكى له قرنائه ممن لم يتعلموا مثله .
كانت الحادثة التى تفاداها السائق المهمل سيارة إطفاء هدأت النار بصدره قليلا و أفاقته , ليعود هذه المرة بنظره نحو الكتاب لكن بتركيز أكبر عازماً أن يثبت لنفسه أنه كان على حق حين قال لأبيه أنه يستطيع التعلم أفضل من إخوته ..
نظر إلى أولى الكلمات وبدأ يحرك يده معها , راسماً إياها ..رفع سبابته للأعلى ثم هبط باستقامة ليرسم أول حرف ( ا ) ..ثم أعاد السبابه إلى نفس النقطة التى رسم منها أول حرف , ثم هبط مجددا باستقامة انتهت بانحنائة بسيطة إلى اليسار ( لـ ) , محركاً فمه , متخيلا نطق الحرفين ..ناطقا : اااالللل ..
لم يعر الركاب - الذين التفتوا إلى صوته وحركاته يحسبونه مجنونا – انتباهه , وأكمل ممثلاً بل مصدقاً أنه بالفعل يكتب ويقرأ ..ثم انتقل إلى الحرف الثالث راسما بسببابته مثلثا , حاد الزوايا , و مقلوبا ( ــعــ )..وبدأ يلونه من الداخل كما هو مرسوم فى الكتاب تماماً ..
مع حركته فى الحرف الرابع حين هبط بسبابته مسافة بسيطة انتهت بانحنائة بسيطة أيضا إلى اليسار (ــد ) , لاحظت الفتاة سبابته بطرف عينها اليمنى ..ظنت أنه مجنوناً , فظلت متسمرة مكانها , متظاهرة أنها تقرأ ولا تسمع صوته المخيف وهو يقول : اااااااللللللففففففققققققق....
فى الحرف الخامس لم يعلم أنه نفس الحرف الثانى فكتبه مثله لكن بانحنائة كبيرة عميقه إلى اليسار ( ل ) , و نطق بصوت عالٍ
: الفقرررررررر ....
ارتعد من صرخة الفتاة وضربها له بالكتاب : ده مجنون ...ابعدوه عنى..ده مجنون
فصرخ بها : أنا جاهل .. جاهل , أنا مش مجنون ...


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More